كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فكان} أي: فتسبب عن قوله ذلك أنه كان {عاقبتهما} أي: الغار والمغرور {أنهما في النار} حال كونهما {خالدين فيها} لأنهما ظلما ظلمًا لا فلاح معه {وذلك} أي: العذاب الأكبر {جزاء الظالمين} أي: كل من وضع العبادة في غير موضعها، أو هم الكافرون لقوله تعالى: {إنّ الشرك لظلم عظيم} [لقمان].
قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما: ضرب الله تعالى هذا المثل ليهود بني النضير، والمنافقين من أهل المدينة فدس المنافقون إليهم، وقالوا: لا تجيبوا محمدًا إلى ما دعاكم إليه، ولا تخرجوا من دياركم فإن قاتلكم فإنا معكم فأجابوهم، وإن أخرجوكم خرجنا معكم فأجابوهم فدربوا على حصونهم وتحصنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين فناصبوهم الحرب فخذلوهم وتبرؤوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصًا، وخذله فكان عاقبة الفريقين في النار.
قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما: وكانت الرهبان بعد ذلك في بني إسرائيل لا يمشون إلا بالتقية والكتمان، وطمع أهل الفسوق في الأحبار، ورموهم بالبهتان حتى كان أمر جريج الراهب، فلما برأه الله تعالى مما رموه به انبسطت بعده الرهبان، وظهروا للناس وكانت قصة جريج ما روي عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج رجلًا عابدًا فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتت أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال رب أمي وصلاتي وأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته، فقال: مثل مقالته الأولى فقالت اللهم لا تمته حتى ينظر في وجوه المومسات. فتذاكر بنو إسرائيل جريجًا وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم، قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج فأتوه فاستنزلوه، وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: زنيت بهذه البغي فحلمت منك، فقال: أين الصبيّ فجاؤوا به، فقال: دعوه حتى أصلي فلما انصرف من صلاته أتى الصبيّ وطعن في بطنه، وقال: يا غلام من أبوك، فقال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا. والثالث: كلم أمه وهي ترضعه في قصة مشهورة».
{يا أيها الذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان باللسان {اتقوا الله} أي: اجعلوا لكم وقاية تقيكم سخط الملك الأعظم باتباع أوامره واجتناب نواهيه، واحذروا عقوبته بسبب التقصير فيما حدّه لكم من أمر أو نهي {ولتنظر نفس ما قدّمت لغد} أي: في يوم القيامة لأنّ هذه الدنيا كلها كيوم واحد يجيء فيه ناس ويذهب آخرون، والموت والآخرة لابد من كل منهما، وكل ما لابد منه فهو في غاية القرب، والعرب تكني عن المستقبل بالغد.
وقيل: ذكر الغد تنبيهًا على أنّ الساعة قريبة كقول القائل: وإنّ غدًا لناظره قريب. وقال الحسن وقتادة: قرب الساعة حتى جعلها كغد، لأنّ كل آت قريب، والموت لا محالة آت. ومعنى {ما قدمت} أي: من خير أو شر، ونكر النفس لاستقلال الأنفس التي تنظر فيما قدمت للآخرة، كأنه قال: ولتنظر نفس واحدة في ذلك، ونكر الغد لتعظيمه وإبهام أمره كأنه قال: الغد لا تعرف كميته لعظمته. وقوله تعالى: {واتقوا الله} أي: الجامع لجميع صفات الكمال تأكيد.
وقيل: كرّر لتغاير متعلق التقويين فمتعلق الأولى أداء الفرائض لاقترانه بالعمل، والثانية ترك المعاصي لاقترانه بالتهديد والوعيد، قال معناه الزمخشري {إن الله} أي: الذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا {خبير} أي عظيم الاطلاع على ظواهركم وبواطنكم والإحاطة {بما تعملون} فلا تعملون عملًا إلا كان بمرأى من ومسمع فاسحيوا منه.
{ولا تكونوا} أيها المحتاجون إلى التحذير وهم الذين آمنوا {كالذين نسوا الله} أي: أعرضوا عن أوامر ونواهي الملك الأعظم، وتركوهها ترك الناسين لمن برزت عنه مع ماله من صفات الجلال والإكرام {فأنساهم} أي: فتسبب عن ذلك أن أنساهم بماله من الإحاطة بالظواهر والبواطن {أنفسهم} أي: فلم يقدموا لها ما ينفعها، وإن قدموا شيئًا كان مشوبًا بالمفسدات من الرياء والعجب فكانوا ممن قال فيه تعالى: {وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة} [الغاشية].
الآية لأنهم لم يدعوا بابًا من أبواب الفسق، فإنّ رأس الفسق الجهل بالله، ورأس العلم ومفتاح الحكمة معرفة النفس فأعرف الناس بنفسه أعرفهم بربه {أولئك} أي: البعداء من كل خير {هم الفاسقون} أي: العريقون في المروق من دائرة الدين.
{لا يستوي} أي: بوجه من الوجوه {أصحاب النار} أي: التي هي محل الشقاء الأعظم {وأصحاب الجنة} أي: التي هي دار النعيم الأكبر لا في الدنيا ولا في الآخرة، واستدل بهذه الآية على أنّ المسلم لا يقتل بالكافر {أصحاب الجنة هم الفائزون} أي: الناجون من كل مكروه المدركون لكل محبوب، وأصحاب النار هم الهالكون في الدارين كما وقع في هذه الغزوة لفريقي المؤمنين وبني النضير ومن والاهم من المنافقين فشتان ما بينهما.
{لو أنزلنا} أي: بعظمتنا التي أبانها هذا الإنزال {هذا القرآن} أي: الجامع لجميع العلوم الفارق بين كل ملتبس المبين لجميع الحكم {على جبل} أي جبل كان، أو جبل فيه تمييز كالإنسان {لرأيته} يا أشرف الخلق وإن لم يتأهل غيرك لتلك الرؤية {خاشعًا} أي: متذللًا باكيًا {متصدّعًا} أي: متشققًا غاية التشقق {من خشية الله} أي: من الخوف العظيم ممن له الكمال كله، وفي هذا حث على تأمّل مواعظ القرآن وتدبر آياته {وتلك الأمثال} أي: التي لا يضاهيها شيء {نضربها للناس لعلهم يتفكرون} فيؤمنون.
والمعنى: أنا لو أنزلنا هذا القرآن على الجبل لخشع لوعده، وتصدع لوعيده، وأنتم أيها المشهورون بإعجازه لا ترغبون في وعده ولا ترهبون من وعيده، والغرض من هذا الكلام التنبيه على قساوة قلوب هؤلاء الكفار وغلظ طباعهم، ونظيره {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة} [البقرة].
وقيل الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي: لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت وتصدّع من نزوله عليه، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له فيكون ذلك امتنانًا عليه أن ثبته لما لم تثبت له الجبال.
وقيل: إنه خطاب للأمة، والمعنى: لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدّعت من خشية الله تعالى، والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتًا فهو يقوم بحقه إن أطاع، ويقدر على ردّه إن عصى لأنه موعود بالثواب ومزجور بالعقاب.
ولما وصف تعالى القرآن بالعظم، ومعلوم أن عظم الصفة تابع لعظم الموصوف أتبع ذلك بوصف عظمته تعالى، فقال عز من قائل: {هو} أي: الذي وجوده من ذاته فلا عدم له بوجه من الوجوه، فلا شيء يستحق الوصف بهو غيره لأنه الموجود دائمًا أزلًا وأبدًا فهو حاضر في كل ضمير غائب بعظمته عن كل حس، فلذلك تصدّع الجبل من خشيته ولما عبر عنه بأخص أسمائه أخبر عنه لطفًا بنا وتنزلًا لنا بأشهرها الذي هو مسمى الأسماء كلها بقوله تعالى: {الله} أي: المعبود الذي لا ينبغي العبادة والألوهية الإله {الذي لا إله إلا هو} فإنه لا مجالس له، ولا يليق ولا يصح ولا يتصوّر أن يكافئه، أو يدانيه شيء والإله أول اسم لله تعالى فلذلك لا يكون أحد مسلمًا إلا بتوحيده، فتوحيده فرض وهو أساس كل فريضة {عالم الغيب} أي: الذي غاب عن جميع خلقه {والشهادة} أي: الذي وجد فكان يحسه ويطلع عليه بعض خلقه. وقال ابن عباس: معناه عالم السرّ والعلانية، وقيل: ما كان وما يكون. وقال سهل: عالم بالآخرة والدنيا، وقيل: استوى في علمه السرّ والعلانية والموجود والمعدوم. وقوله تعالى: {هو الرحمن الرحيم} معناه ذو الرحمة، ورحمة الله تعالى إرادته الخير والنعمة والإحسان إلى خلقه. وقيل: إنّ رحمن أشدّ مبالغة من رحيم، ولهذا قيل: هو رحمن الدنيا ورحيم الآخرة لأنه تعالى بإحسانه في الدنيا يعم المؤمن والكافر، وفي الآخرة يختص إنعامه وإحسانه بالمؤمنين.
{هو الله} أي: الذي لا يقدر على تعميم الرحمة لمن أراد وتخصيصها بمن شاء إلا هو {الذي لا إله} أي: لا معبود بحق {إلا هو الملك} أي: فلا ملك في الحقيقة إلا هو لأنه لا يحتاج إلى شيء، لأنه مهما أراد كان فهو متصرّف بالأمر والنهي في جميع خلقه، فهم تحت ملكه وقهره وإرادته {القدوس} أي: البليغ في النزاهة عن كل وصم يدركه حس، أو يتصورّه خيال، أو يسبق إليه وهم، أو يختلج إليه ضمير.
ونظيره: السبوح وفي تسبيح الملائكة سبوح قدوس رب الملائكة والروح {السلام} أي: الذي سلم من النقائص وكل آفة تلحق الخلق، فهو بمعنى السلامة ومنه دار السلام وسلام عليكم وصف به مبالغة في وصف كونه سليمًا من النقائص، أو في إعطائه السلامة {المؤمن} قال ابن عباس: هو الذي أمن الناس من ظلمه، وأمن من آمن به عذابه. وقيل: هو المصدّق لرسله بإظهار المعجزات لهم، والمصدّق للمؤمنين بما وعدهم من الثواب وبما أوعد الكافرين من العذاب. وقال مجاهد: المؤمن الذي وحد نفسه لقوله تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو} [آل عمران].
قال ابن عباس: إذا كان يوم القيامة أخرج أهل التوحيد من النار، وأوّل من يخرج من وافق اسمه اسم نبي حتى إذا لم يبق فيها من وافق اسمه اسم نبي قال الله تعالى لباقيهم: أنتم المسلمون وأنا السلام وأنتم المؤمنون وأنا المؤمن، فيخرجهم من النار ببركة هذين الاسمين {المهيمن} قال ابن عباس أي الشهيد على عباده بأعمالهم الذي لا يغيب عنه شيء، وقيل: هو القائم على خلقه بقدرته، وقيل: هو الرقيب الحافظ لكل شيء مفيعل من الأمن قلبت همزته هاء {العزيز} أي: الذي لا يوجد له نظير، وقيل: هو الغالب القاهر {الجبار} الذي جبر خلقه على ما أراده، أو جبر حالهم بمعنى أصلحه، والجبار في صفة الله صفة مدح، وفي صفة الناس صفة ذم وكذا قوله تعالى: {المتكبر} أي: الذي تكبر على كل ما يوجب حاجة أو نقصًا، وهو في حقه تعالى صفة مدح لأنه له جميع صفات العلوّ والعظمة، وفي صفة الناس صفة ذم لأنّ المتكبر هو الذي يظهر من نفسه التكبر، وذلك نقص في حقه لأنه ليس له كبر ولا علوّ بل له الحقارة والذلة، فإذا أظهر الكبر كان كذابًا في فعله {سبحان الله} أي: تنزه الملك إلا على الذي اختص بجميع صفات الكمال تنزهًا لا تدرك العقول منه أكثر من أنه علا عن أوصاف الخلق فلا يدانيه شيء من نقص تعالى: {عما يشركون} أي: من هذه المخلوقات من الأصنام وغيرها مما في الأرض، أو في السماء من صغير وكبير وجليل وحقير.
{هو} أي: الذي لا شيء يستحق أن يطلق عليه هذا الضمير غيره لأنّ وجوده من ذاته، ولا شيء غيره إلا وهو ممكن ولما ابتدأ بهذا الغيب المحض الذي هو أظهر الأشياء أخبر عنه بأشهر الأشياء الذي لم يقع فيه شركة بوجه. فقال تعالى: {الله} أي: الذي ليس له سميّ فلا كفء له فهو المعبود بالحق فلا شريك له بوجه {الخالق} أي: المقدر للأشياء على مقتضى حكمته {البارئ} أي: المخترع المنشئ للأشياء من العدم إلى الوجود بريًا من التفاوت وقوله تعالى: {المصور} أي: الذي يخلق صور الأشياء على ما يريد بكسر الواو ورفع الراء إما صفة، وإمّا خبر واحترزت بهذا الضبط عن قراءة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن فإنهما قرأا بفتح الواو ونصب الراء، وهي قراءة شاذة وإنما تعرّضت لها لأبين وجهها، وهو أن تخرّج هذه القراءة على أن يكون المصور منصوبًا بالبارئ، والمصوّر هو الإنسان إمّا آدم وإما هو وبنوه وعلى هذه القراءة يحرم الوقف على المصوّر بل يجب الوصل ليظهر النصب في الراء، وإلا فقد يتوهم منه في الوقف ما لا يجوز {له} أي: خاصة {الأسماء الحسنى} التسعة والتسعون الوارد فيها الحديث، وقد ذكرتها في سورة الإسراء. والحسنى تأنيث الأحسن {يسبح} أي: يكرّر التنزيه الأعظم عن كل شيء من شوائب النقص على سبيل التجدّد والاستمرار {له} أي: على وجه التخصيص {ما في السموات} أي السموات وما فيها {والأرض} وما فيها {وهو} أي: والحال أنه وحده {العزيز} أي: الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {الحكيم} أي: الجامع الكمالات بأسرها فإنها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم. وعن معقل بن يسار أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ الثلاث آيات من سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدًا، ومن قاله حين يمسي كان كذلك».